فصل: ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو.
وحج هذه السنة بالناس أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية.
وغزا هذه السنة الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري. ثم دخلت:

.سنة ثمان وسبعين:

.ذكر عزل أمية بن عبد الله وولاية المهلب خراسان:

في هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله بن خالد عن خراسان وسجستان وضمهما إلى أعمال الحجاج بن يوسف ففرق عماله فيهما، فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان، وقد فرغ من الأزارقة، ثم قدم على الحجاج وهو بالبصرة فأجلسه معه على السرير ودعا أصحاب البلاء من أصحاب المهلب فأحسن إليهم وزادهم. وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان الحجاج قد استخف على الكوفة عند مسيره إلى البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فلما استعمل المهلب على خراسان سير ابنه حبيباً إليها، فلما ودع الحجاج أعطاه بغلةً خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوماً حتى وصل خراسان، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب فنفرت البلغة، فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير. فلما وصل خراسان لم يعرض لأمية ولا لعماله وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان أمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وكان نائبه بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله بن أبي بكرة، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس، فيما قيل.
في هذه السنة مات عبد الرحمن بن عبد الله القاري وله ثمان وسبعون سنة، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم، برأسه.
القاري بالياء المشددة.
وفيها مات زيد بن خالد الجهني، وقيل غير ذلك، وتوفي عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أدرك الجاهلية، وليست له صحبة. ثم دخلت:

.سنة تسع وسبعين:

.ذكر غزو عبيد الله رتبيل:

لما ولى الحجاج عبيد الله بن أبي بكرة سجستان، وذلك سنة ثمان وسبعين، مكث سنة لم يغز، وكان رتبيل مصالحاً، وكان يؤدي الخراج، وربما امتنع منه.
فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة يأمره بمناجزته وأن لا يرجع حتى يستبيح بلاده ويهدم قلاعه ويقيد رجاله.
فسار عبيد الله في أهل البصرة وأهل الكوفة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب علي، ومضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصوناً، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يتركون لهم أرضاً بعد أرض حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، فسقط في أيدي المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف درهم يوصلها إلى رتبيل ليمكن المسلمين من الخروج من أرضه، فلقيه شريح فقال له: إنكم لا تصالحون على شيء إلا حسبه السلطان من أعطياتكم، وقد بلغت من العمر طويلاً وقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان وإن فاتتني اليوم الشهادة ما أدركها حتى أموت. ثم قال شريح: يا أهل الإسلام تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت.
فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال بستان عبيد الله وحمام عبيد الله. يا أهل الإسلام من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلاً، وجعل شريح يرتجز ويقول:
أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا ** قد عشت بين المشركين أعصرا

ثمة أدركنا النبي المنذرا ** وبعده صديقه وعمرا

ويوم مهران ويوم تسترا ** والجمع في صفينهم والنهرا

وباجميراتٍ مع المشقرا ** هيهات ما أطول هذا عمرا

وقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ونجا منهم، فخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم السمن قليلاً قليلاً حتى استمرؤوا، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عبد الملك يعرفه ذلك ويخبره أنه قد جهز من أهل الكوفة وأهل البصرة جيشاً كثيفاً ويستأذنه في إرساله إلى بلاد رتبيل.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كادوا يفنون، فلم يغز تلك السنة أحد فيما قيل. وفيها أصاب أهل الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفيها استعفى شريح بن الحارث عن القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى.
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وكان على العراق والشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس.
وفيها مات محمود بن الربيع، وكنيته أبو إبراهيم، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. ثم دخلت:

.سنة ثمانين:

في هذه السنة أتى سيل بمكة فذهب بالحجاج، وكان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال ما لأحد فيهم حيلة، وغرقت بيوت مكة، وبلغ السيل الركن فسمي ذلك العام الجحاف وفي هذه السنة وقع بالبصرة طاعون الجارف.

.ذكر غزوة المهلب ما وراء النهر:

في هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش، وكان على مقدمته أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهو في خمسة آلاف، وكان أبو الأدهم يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة، فأتى المهلب وهو نازل على كش ابن عم ملك الختل فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختل الشبل، فنزل يزيد ونزل ابن عم الملك ناحية، فبيته الشبل وأخذه فقتله، وحصر يزيد قلعة الشبل فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم، ووجه المهلب ابنه حبيباً فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً، فنزل جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية، فسميت المحترقة، ورجع حبيب إلى أبيه.
وأقام المهلب بكش سنتين، فقيل له: لو تقدمت إلى ما وراء ذلك. فقال: ليت حظي من هذه الغزاة سلامة هذا الجند وعودهم سالمين.
ولما كان المهلب بكش أتاهم قوم من مضر فحبسهم بها، فلما رجع أطلقهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت بإطلاقهم، وإن كنت أصبت بإطلاقهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فكتب المهلب: خفتهم وحبستهم، فلما أمنتهم خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري.
وصالح المهلب أهل كش على فديةٍ يأخذها منهم، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته، فبعث بكتابه إلى الحجاج وأقام بكش.

.ذكر تسيير الجنود إلى رتبيل مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:

قد ذكرنا حال المسلمين حين دخل بهم ابن أبي بكرة بلاد رتبيل، واستأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود نحو رتبيل، فأذن له عبد الملك في ذلك، فأخذ الحجاج في تجهيز الجيش، فجعل على أهل الكوفة عشرين ألفاً، وعلى أهل البصرة عشرين ألفاً، وجد في ذلك وأعطى الناس أعطياتهم كملاً، وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وانجدهم بالخيل الرائقة والسلاح الكامل، وأعطى كل رجل يوصف بشجاعة وغناء، منهم عبيد بن أبي محجن الثقفي وغيره.
فلما فرغ من أمر الجندين بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج ببغضه ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. فلما أراد الحجاج أن يبعث عبد الرحمن على ذلك الجيش أتاه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعثه فوالله ما جاز جسر الفرات فرأى الوالٍ عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسيره على ذلك الجيش، فسار بهم حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلف منكم أحد فتمسه العقوبة.
فعسكروا مع الناس وتجهزوا، وسار بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه ودخل بلاده وترك له رتبيل أرضاً أرضاً ورستاقاً رستاقاً وحصناً حصناً، وعبد الرحمن يحوي ذلك، وكلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وجعل معه أعواناً، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوفٍ حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة منع الناس من الوغول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، وفي العام المقبل نأخذ ما وراءها إن شاء الله تعالى، حتى نقاتلهم في آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم وأقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد أن يعمل.
وقد قيل في إرسال عبد الرحمن غير ما ذكرنا، وهو أن الحجاج كان قد ترك بكرمان هميان بن عدي السدوسي يكون بها مسلحة إن احتاج إليه عامل سجستان والسند، فعصى هميان، فبعث إليه الحجاج عبد الرحمن بن محمد، فحاربه فانهزم هميان وأقام عبد الرحمن بموضعه. ثم إن عبيد الله بن أبي بكرة مات وكان عاملاً على سجستان، فكتب الحجاج لعبد الرحمن عهده عليها وجهز إليه هذا الجيش، فكان يسمى جيش الطواويس لحسنه.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان على العراق والمشرق الحجاج، وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج، وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس وعلى قضاء الكوفة أبو بردة.
وفي هذه السنة مات أسلم مولى عمر بن الخطاب. ووفيها توفي أبو إدريس الخولاني.
وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقيل سنة أربع، وقيل سنة خمس، وقيل سنة ست وثمانين، وقيل سنة تسعين. وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الجهني الذي يروي حديث الدباغ، وهو أول من قال بالقدر في البصرة، قتله الحجاج، وقيل: قتله عبد الملك بن مروان بدمشق. وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية، وله صحبة، وكان على غزو البحر أيام معاوية كلها. وفيها مات السائب بن يزيد ابن أخت النمر، وقيل: سنة ست وثمانين، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي سويد بن غفلة، بفتح الغين المعجمة، والفاء.
وفيها توفي عبد الله بن أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. وجبير بن نفير بن مالك الحضرمي، أدرك الجاهلية، وليس له صحبة. ثم دخلت:

.سنة إحدى وثمانين:

في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا.

.ذكر مقتل بحير بن ورقاء:

وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي.
وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وشاح، وكلاهما تميميان، بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك، كما تقدم ذكره، قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأنباء يحرض بعض آل بكير من الأنباء، والأنباء عدة بطون من تميم سموا بذلك:
لعمري لقد أغضبت عيناً على القذى ** وبت بطيناً من رحيقٍ مروق

وخليت ثأراً طل واخترت نومةً ** ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق

فلو كنت من عوف بن سعدٍ ذؤابةً ** تركت بحيراً في دمٍ مترقرق

فقل لبحير نم ولا تخشى ثائراً ** ببكر فعوف أهل شاءٍ حبلق

دع الضأن يوماً قد سبقتم بوتركم ** وصرتم حديثاً بين غربٍ ومشرق

وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ** لغاداهم زحفاً بجأواء فيلق

وقال أيضاً:
فلو كان بكر بارزاً في أداته ** وذي العرش لم يقدم عليه بحير

ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ** وفي الله طلاب بذاك جدير

فبلغ بجحيراً أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال:
توعدني الأبناء جهلاً كأنما ** يرون مقفراً من بني كعب

رفعت له كفي بعضبٍ مهندٍ ** حسام كلون الثلج ذي رونق عضب

فتعاقد سبعة عشر رجلاً من بني عوف الطلب بدم بكير، فخرج فتىً منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيراً واقفاً فحمل عليه، فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله، فقال الناس: خارجي، وراكضهم، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل.
وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية، وقد باع غنيمات له، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا لي إلى بحير كتاباً ليعينني على حقي. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته، فلقي قوماً من بني عوف، فأخبرهم أمره، ولقي بحيراً فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وأن له مالاً بسجستان وميراثاً بمرو، وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده، فقال صعصعة: أقيم عندك حتى يرجع الناس؛ فأقام شهراً يحضر معه باب المهلب، وكان بحير قد حذر، فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه.
فجاء يوماً صعصة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء، فقعد خلفه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه، ونادى: يا لثارات بكير! فاخذ وأتي به المهلب، فقال له: بؤساً لك! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك، وما على بحير بأس. فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. فحبسه، فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. ومات بحير من الغد، فقال صعصعة لما مات بحير: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري؟ والله لقد أمكنني منه خالياً غير مرة فكرهت أن أقتله سراً. فقال المهلب: ما رأيت رجلاً أسخى نفساً بالموت من هذا. وأمر بقتله فقتل.
وقيل: إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت، فقتله، ومات بحير بعده.
وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره؟ فنازعهم مقاعس والبطون، وكلهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير، فودوا صعصعة؛ فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتىً تجاوز همه ** دون العراق مفاوزاً وبحورا

ما زال يدئب نفسه وركابه ** حتى تناول في الحروب بحيرا

.ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم:

كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلاً ونهاراً، فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً عظيم الغناء في حروبه، فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم، ففتحوها.
وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد، وتصايح الناس، فقال ابن أبي سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم. فاغلقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبي سبرة بلاءً عظيماً، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الديلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم. فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه، وكان يدمن شرب الخمر، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز، فأمر بتسييره إلى زرارة، وهي دار الفساق بالكوفة، فسير إليها، فأغارت الديلم ونالت من المسلمين، وظهر الخلل بعده، فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة، فكتب بذلك إلى عمر، فأذن له في عوده إلى الثغر، فعاد إليه وحماه.
ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن، وهو اسم أبي سبرة، وكان من الفقهاء.

.ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج:

وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا إليه لحربه، وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وثمانين. وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون كتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها على ما سبق ذكره.
فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغناؤهم عظيماً، وغنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريم، ثم أردفه كتاباً آخر بنحو ذلك، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه ثالثاً بذلك، ويقول له: إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس.
فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر، وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو لطفيل عامر بن واثلة الكناني، وله صحبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وغن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له، ولم يذكر عبد الملك.
وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي، وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراد منعه. ثم رجع إلى العراق، فسار بين يديه أعشى همدان وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ** إيوان كسرى ذي القرى والريحان

من عاشقٍ أمسى بزابلستان ** إن ثقيفاً منهم الكذابان

كذابها الماضي وكذاب ثان ** أمكن ربي من ثقيف همدان

يوماً إلى الليل يسلي ما كان ** إنا سمونا للكفور الفتان

حين طغى في الكفر بعد الإيمان ** بالسيد الغطريف عبد الرحمن

سار بجمع كالدبا من قحطان ** ومن معدٍ قد أتى من عدنان

بجحفلٍ جمٍ شديد الأركان ** فقل لحجاجٍ ولي الشيطان

يثبت بجمع مذحجٍ وهمدان ** فإنهم ساقوه كأس الذيفان

وملحقوه بقرى ابن مروان وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وجعل على كرمان حريثة بن عمرو التميمي، فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبحر من تميم الله بن ثعلبة، قام فال: أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي. فخلعه الناس إلا قليلاً منهم، وبايعوا بعد الرحمن، وكانت بيعته: نبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعها وجهاد المحلين.
فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن وسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى نزل البصرة.
ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم. فلما قرأ كتابه سبه وقال: ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه، يعني عبد الرحمن.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه، فإن كان من خراسان فإني أتخوفه. فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج، فكانوا يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر، وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن. فسار الحجاج من البصرة ليلتقي عبد الرحمن، فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل، فلقوا عنده خيلاً لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد، وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير.
فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم، وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق، ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال: لله دره أي صاحب حرب هو! وفرق في الناس مائة وخمسين ألف ألد فرهم.
فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة، فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتلا الحجاج ومن معه من أهل الشام. وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد أنكر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها، فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون، فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك.
وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة؛ وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة.